الفنان حسكو: الكم الهائل من العنف الذي نعيشه لا أستطيع مواجهته إلا بالجمال

بقلم: ألينا عامر

قبل ذهابي لمقابلة الفنان حسكو حسكو كان عقلي يضج بالأسئلة: اللغة الفنيّة، المدارس المتبعة، من هم الفنانين الذين تأثر بهم، مصدر إلهام العناصر في أعماله… الخ كان لدي تصور مسبق مستقى من الأعمال ولكن كل هذه المواضيع حلت بالمرتبة الثانية بالرغم من تعقيدها وأهميتها!

تفاجأت بالبساطة والروح الريفية المتقشّفة التي تجد إلهامها في الطبيعة، روحٌ حافظت على جوهرها الخام ولمسة الطفولة في حقيبة سفر لرحلة الحياة والخلق الفني والتي حملت: الطبيعة وديانها وكائناتها وسلوكها في بيئتها وتفاصيل الطفولة وألعابها والحياة القروية والزرع والحصاد والفخر بامتلاك قطعة أرض تحقّق الاكتفاء الذاتي. حملت ايضا كوخ صغير من الخشب على شجرة بعيدا عن تحكّم المادة بمجمتعاتنا والحياة الصناعية ومخلفاتها وحتمية التوظف والعبودية عند اصحاب رؤوس الاموال، والحريّة والاستقلالية وبالآن ذاته التوحد بالخلق الذي يشعر به الانسان عندما يكون جزءا لا يتجزّأ من الأرض وخليقتها.

أقام الفنان حسكو حسكو – وهو من مواليد عفرين من أجمل أرياف شمال سوريا حيث عاش طفولته ومراهقته –  معرضا فرديا في صالة (Art on 56th) في بيروت والذي نلمس فيه تأثره بالفنان مارك شغال؛ فيؤكد حسكو ذلك من خلال “وجود تقاطع بيننا من حيث البيئة التي عاشا فيها والحنين لبساطتها وتفاصيلها والرجوع المستمر بالذاكرة لها”.

من أعمال الفنان حسكو حسكو
من أعمال الفنان حسكو حسكو
مغادرة العالم، أكريليك على قماش، 120*80*120*80 سم
مغادرة العالم، أكريليك على قماش، 120*80*120*80 سم

الصدق في نقل الحنين لتلك البيئة ومفرداتها ومحاولة تجسيد تلك المفردات وتوظيفها لخلق حلول تشكيلية وعوالم خاصة به كان جلياً في أعمال حسكو؛ باعتبار انها ليست عناصر مفتعلة أو مقتبسة، وانما وليدة ومضات من الذاكرة كانت في يوم ما تفاصيل مادية حياتية عاشها الفنان ونتيجة للتفاعل اليومي مع مكونات بيئته  في زمن مضى. على سبيل المثال وليس الحصر: مروحة يدوية الصنع، خط التقاء السماء مع الأرض، العنبر والرسومات القديمة المنقوشة على سطحه، شجرة خاصة بكل فرد من افراد العائلة مسماةٌ باسمه والحميمية التي يشعر بها الفرد تجاه شجرتة التي زرعها عندما يأكل من ثمارها.

الفخر بهذه الخلفية الريفية والهوية التي يسعى الكثير لطمسها من أكثر الأمور التي لفتت نظري أثناء حديثي مع الفنان السوري الذي يصف المدن الكبرى “بحيتانٍ قادرة على ابتلاع بساطة وحرفية ومهارة الإنسان الريفي، فيقع بسهولة في فخ طمس تلك المميزات ليتأقلم مع بروتوكولات وقشريات المجتمع المتحضر، مبتعدا عن بساطة القروي الذي لا يقل ذكاءً وتكيّفاً مع محيطٍ تحكمه قوانين الطبيعة الأم وعدالتها”.

طروادة: Troy

طروادة، اكريليك على قماش، 130*100 سم
طروادة، اكريليك على قماش، 130*100 سم

تعكس لوحة طروادة أو Troy التحول المؤثر لسلوكٍ ظاهره بريء وباطنه شرس ، تماماً كتحول استخدام مفردات وألعاب الأطفال إلى استخدام ألعاب أخطر يتشربها العنف. فحياة الحرب والتمزّق السياسي والعدائية اليومية الممارسة الذي يعيشها الفنان في وطنه جعلته يشعر بأنه حصان طروادة الخشبي؛ أي تلك اللعبة الجميلة التي تسحر الناظر ولكن بنفس الوقت تخبئ الألم والمعاناة والتمزق والدمار، خبايا وأسرار يصعب الجهر بها لكنه نجح في معالجتها… و ان كان بشكل تصوري.

يقول حسكو “أنا الحصان الجميل الذي ترونه ولكنني لا أستطيع البوح عن كل مكنوناتي، فالكم الهائل من العنف الذي نعيشه لا أستطيع مواجهته إلا بالجمال لكن ذلك لا يلغي وجود شيءٌ ما يغلي في داخلي ويحرقني”.

الوحش المؤنسن

رائحة الأصفر، أكريليك على قماش، 100*120 سم
رائحة الأصفر، أكريليك على قماش، 100*120 سم

نرى في لوحة (رائحة الأصفر Yellow Aroma) ذات الكائن في لوحاتٍ سابقة إلا أنه يأخذ منحى آخر حيث يتكثف من ناحية اللون والتقنية المستخدمة وينتقل من الشكل التعبيري الى شكل أكثر تحديدا ووضوحا؛ فهو وحش يشم رائحة صفراء، عينه عين انسان.

ربما قصد الفنان أن يعبّر في هذه اللوحة عن المخلوقات التي ظاهرها إنسان وباطنها وحش، او أنّه انتقل من حالة الخروج من الذات في اللوحات السابقة ليركّز على أماكن في اللوحة ويحددّها بهدف التفريغ عن الضغط النفسي والواقع الذي يعيشه.

حالة من التشتّت والضياع في عمل يتجسّد في لوحة (العصفور Bird): عصفور صغير له عين شخص ينظر نظرة المراقب يكمن فيها حسرةٌ ولومٌ للحالة المأساوية التي وصل اليها الشعب السوري من تشرّدٍ واستنزافٍ… عصفورٌ صغيرٌ تركته أمه لأسباب خارجة عن إرادتها فشعر بالوحدة والضعف وقساوة الصراع من أجل البقاء.

العصفور 2 ، أكريليك على قماش، 80*120 سم
العصفور 2 ، أكريليك على قماش، 80*120 سم

أعمال حسكو هي تجارب فنية تنقل ألم ومعاناة وصرخة داخلية من واقع الحرب القاسي، وفي الوقت ذاته بعيدة كل البعد عن مفهوم استهلاك المفردات الحربية المباشرة التي تستخف بالمشاهد لسهولة التقاطها ومجانيّة تذوّقها وآنيته.

يرى الفنان حسكو أنه “على الرغم من أن الاحداث التي لم تحسم، والمستقبل المبهم فإن الفن لا ينتظر… الموضوع حجّة قويّة والحدث ووقعه يفرضان أنفسهما لكنّهما يُطَوَّعان بناءً على الهم التشكيلي، هَمٌّ يفرض على خالق العمل صراعا داخليا لينجز اللوحة وينتج عملا فنيا لا يتكرر” مؤكداً أن واجبه واولوياته كفنان أن “أتعامل مع المنتج من ناحية بصرية وليس عاطفية حتى لا يضحي مستهلكا ومستخفّا بالمتلقي”.

شعرت أن هذا الصدق والصراحة في الحوار أهم وقعا وتأثيرا من المفردات الفنيّة والتحليلات المعقدة التي قد تصف أعماله…

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Twitter picture

You are commenting using your Twitter account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s